سورة القصص - تفسير تفسير الشعراوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (القصص)


        


{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(10)}
الفؤاد: هو القلب، لكن لا يُسمى القلب فؤاداً إلا إذا كانت فيه قضايا تحكم حركتك، فالمعنى: أصبح فؤاد أم موسى {فَارِغاً} [القصص: 10] أي: لا شيء فيه مما يضبط السلوك، فحين ذهبتْ لترمي بالطفل وتذكرت فراقه وما سيتعرض له من أخطار كادت مشاعر الأمومة عندها أن تكشف سِرَّها، وكادت أنْ تسرقها هذه العاطفة.
{إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} [القصص: 10] يعني: تكشف أمره {لولا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا} [القصص: 10].
وسبق أنْ قُلْنا: إن الإنسان يدرك الأشياء بآلات الإدراك عنده، ثم يتحول هذا الإدراك إلى وجدان وعاطفة، ثم إلى نزوع وعمل، ومثَّلْنا لذلك بالوردة التي تراها بعينيك، ثم تعجب بها، ثم تنزع إلى قطفها، وعند النزوع تواجهك قضايا في الفؤاد تقول لك: لا يحق لك ذلك، فربما رفض صاحب البستان أو قاضاك، فالوردة ليست مِلْكاً لك.
وكذلك أم موسى، كان فؤادها فارغاً من القضية التي تُطمئنها على وليدها، بحيث لا تُفشي عواطفها هذا السر.
ومعنى {رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا} [القصص: 10] أي: ثبَّتْناها ليكون الأمر عندها عقيدة راسخة لا تطفو على سطح العاطفة، ومن ذلك قوله تعالى عن أهل الكهف: {وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السماوات والأرض} [الكهف: 14].
إذن: الربْط على القلب معناه الاحتفاظ بالقضايا التي تتدخل في النزوع، فإنْ كان لا يصح أن تفعل فلا تفعل، وإنْ كان يصح أنْ تفعل فافعل، فهذه القضايا الراسخة هي التي تضبط التصرفات، وكان فؤاد أم موسى فارغاً منها.
لذلك نقول لمن يتكلم بالكلام الفارغ الذي لا معنى له: دَعْكَ من هذا الكلام الفارغ أي: الذي لا معنى له ولا فائدةَ منه، ومن ذلك قولهم: فلان عقله فارغ يعني: من القضايا النافعة. وإلا فليس هناك شيء فارغ تماماً، لابد أن يكون فيه شيء، حتى لو كان الهواء.
ومنه قوله تعالى: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ} [إبراهيم: 43] ويقولون في العامية:(فلان معندوش ولا الهوا) ذلك لأن الهواء آخر ما يمكن أن يفرغ منه الشيء.
ومعنى: {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} [القصص: 10] يعني: قاربت من فراغ فؤادها أن تقول إنه ولدي {لولا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ المؤمنين} [القصص: 10] لإن الإيمان هو الذي يجلب لك النفع، ويمنعك من الضار، وإنْ كان فيه شهوة عاجلة لك، فمنعها إيمانُها من شهوة الأمومة في هذا الموقف، ومن ممارسة العطف والحنان الطبيعيين في الأم؛ لأن هذه شهوة عاجلة يتبعها ضرر كبير، فإنْ أحسُّوا أنه ولدها قتلوه.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ}


{وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ(11)}
قُصِّيه: يعني: تتبعي أثره، وراقبي سيره إلى إين ذهب؟ وماذا فُعِل به؟ وحين سمعت الأخت هذا الأمر سارعتْ إلى التنفيذ؛ لذلك استخدم الفاء الدالة على التعقيب وسرعة الاستجابة {فَبَصُرَتْ بِهِ} [القصص: 11] ولم يقُلْ: فقصَّته؛ لأن البصر وإنْ كان بمعنى الرؤية إلا أنه يدل على العناية والاهتمام بالمرئي.
ومعنى: {عَن جُنُبٍ} [القصص: 11] من ناحية بحيث لا يراها أحد، ولا يشعر بتتبعها له، واهتمامها به. ومن ذلك ما حكاه القرآن من قول السامري: {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ} [طه: 96] أي: رأى من حيث لا يطَّلِع أحد عليه.
ونلحظ هنا أن أخت موسى أخذتْ الأمر من أمها {قُصِّيهِ} [القصص: 11] فقط ولم تلفت نظرها إلى هذا الاحتياط {عَن جُنُبٍ} [القصص: 11] مما يدلُّ على ذكاء الفتاة وقيامها بمهمتها على أكمل وجه، وإن لم تُكلَّف بذلك، وهذا من حكمة المرسَل الحريص على أداء رسالته على وجهها الصحيح.
ما أجملَ ما قاله الشاعر في هذا المعنى:
إذَا كُنْتَ في حَاجةٍ مُرْسِلاً *** فأَرسِلْ حَكيماً ولاَ تُوصِهْ
وقوله تعالى: {عَن جُنُبٍ} [القصص: 11] يظن البعض أن جنب يعني قريب مني، وهذا غير صحيح؛ لأن معنى الجنب ألاَّ تكون في مواجهتي، لذلك يقول تعالى: {والجار ذِي القربى والجار الجنب} [النساء: 36] إذن: الجار الجنب مقابل الجار القريب، فمعناه الجار البعيد.
فكأن الفتاة حين ذهبت لتتبع سَيْر التابوت أخذتْ مكاناً بعيداً منه، حتى لا يفطن أحد إلى متابعتها له.
ومن ذلك قولنا:(فلان تجنّبني، أو فلان واخد جنب مني) أي: يبتعد عني، إذن: البعض يفهم هذه الكلمة على عكس مدلولها.
ألاَ ترى لقول إبراهيم عليه السلام: {واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام} [إبراهيم: 35] وقوله تعالى: {واجتنبوا قَوْلَ الزور} [الحج: 3] فالاجتناب يعني: الابتعاد.
وفي تحريم الخمر قال تعالى: {إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه} [المائدة: 90] فطلع علينا مَنْ يقول: هذا ليس نصاً في التحريم، لأنه لم يقُلْ حرَّمْت عليكم، فهي مجرد موعظة ونصيحة.
ونقول: لو فهمت معنى {فاجتنبوه} [المائدة: 90] لعلمتَ أنها أقوى في التحريم من حرمت عليكم؛ لأن معنى حرَّمتْ عليكم الخمر يعني: لا تشربوها، أما {فاجتنبوه} [المائدة: 90] يعني: ابتعدوا عنها كليةً شُرْباً أو بَيْعاً، أو شراء، أو نقلاً، أو حتى الجلوس في مجالسها.
ثم تتحدث الآيات بعد ذلك عن تمهيدات الأقدار للأقدار، فتقول: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع}


{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ(12)}
التحريم هنا لا يعني التحريم بالنسبة للمكلَّف: هذا حلال وهذا حرام، إنما {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع} [القصص: 12] يعني: منعناه أنْ يرضع من المرضعات اللائي يأتونَ بهن لتتقلب عليه المراضع واحدة بعد الأخرى، إلى أن تأتيه أمه.
و{المراضع} [القصص: 12] جمع مُرضِع، ونقول أيضاً: مرضعة، ولكل من اللفظين مدلول، على خلاف ما يظنه البعض أنهما بمعنى واحد.
واقرأ أول سورة الحج: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ} [الحج: 2].
المرضِع: التي من شأنها أنْ تُرضع، وصالحة لهذه العملية، لكن المرضعة التي تُرضع الآن فعلاً، وعلة حِجْرها طفل يلتقم ثديها، وفي موقف القيامة ستذهل هذه عن طفلها من هَوْل ما ترى، إذن: فالتي تذهل هي المرضعة لا المرضع.
والضمير في {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ} [القصص: 12] يعود على أخت موسى؛ لأنها ما زالت في مهمة تتبُّع الولد، وقد سمعها هامان تقول {هَلْ أَدُلُّكُمْ على أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص: 12] فقال لها: لابد أنك من أهل هذا الولد؟ وتعرفين قصَّته، فقالت: بل ناصحون للملك مخلصون له. وفعلاً وافقوها على ما نصحتْ به؛ لأنهم معذورون، فالولد يأبى الرضاعة من الأخريات.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَرَدَدْنَاهُ إلى أُمِّهِ}

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8